الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وأعلم أن اللّه تعالى جعل عباده شطرين، شطر أخذ بالعزيمة التي هي من العزم وهو عقد القلب على إمضاء الأمر بالصبر والمغفرة والصفح مما هو موافق لشريعة سيدنا عيسى عليه السلام، راجع الآية 34 من سورة السجدة المارة، وهؤلاء الذين مدحهم اللّه تعالى فيها وقليل ما هم، وشطر أخذ بالرخصة وهي الانتصاف والمقابلة بالمثل وهذه من خصائص هذه الأمة التي جعلها اللّه سبحانه أمة وسطا وخير أمة أخرجت للناس وخير الأمور أوساطها، ومما خصت به من السنّة مما بوافق هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «أنصر أخاك ظالما أو مظلوما».ونصر الظالم ردعه عن الظلم، وخيرها في هذه الآية بين الأمرين الرخصة والعزيمة وندبها إلى ما هو الا حسن بقوله: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}.الآية 55 من سورة الزمر المارة، ومدح هؤلاء بقوله عز قوله: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} الآية 19 منها فراجع هاتين الآيتين ففيهما كفاية.قيل دخل رجل دميم على امرأته وقد تزينت له فقال لها: لقد أصبحت رائعة في الجمال، فقالت له أبشر فإن مصيرنا الجنة، قال وكيف؟ قالت لأنك أعطيت مثلي فشكرت ولأني ابتليت بمثلك فصبرت، والشاكر والصابر في الجنة.وهذا إذا حسنت النية في الصبر والشكر وكان القصد من الانتصاف والمقابلة ما ذكرناه آنفا في تفسير الآيتين المذكورتين فيكونون ممدوحين أيضا كما يشير إليه سياق التنزيل وسياقه، إذ جاء بمعرض المدح وإلا فلا ثواب ولا عقاب، وقد أثبتنا لك أيها القارئ فيما يلي جملة أحاديث في هذا الموضوع لتلين عريكتك وتخفض جناحك وتجنح إلى العفو رغبة بما يعده اللّه تعالى للعافين أمثالك في يوم أنت أكثر احتياجا إليه، عنك تمتنع من الانتقام الذي فيه حظ النفس الخبيثة الأمارة بالسوء فتحرم من الأجر المقدر على العفو والصفح، فمنها ما أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «قال موسى ابن عمران عليه السلام يا ربّ من أعزّ عبادك عندك؟ قال من إذا قدر غفر».وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أنس قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «إذا وقف العباد للحساب نادى مناد ليقم من كان أجره على اللّه فليدخل الجنة، ثم نادى الثانية ليقم من أجره على اللّه تعالى، قالوا ومن ذا الذي أجره على اللّه تعالى؟ قال العافون عن الناس، فقام كذا وكذا ألفا فدخلوا الجنة بغير حساب».وأخرج أحمد وأبو داود عن أبي هريرة أن رجلا شتم أبا بكر رضي اللّه عنه والنبي صلى الله عليه وسلم جالس فجعل عليه الصلاة والسلام يعجب ويتبسّم فلما أكثر رد عليه بعض قوله، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقام، فلحقه أبو بكر فقال يا رسول اللّه كان يشتمني وأنت جالس، فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت؟ قال «إنه كان معك ملك يردّ عنك، فلما رددت عليه بعض قوله وقع الشيطان فلم أكن لأقعد مع الشيطان»، ثم قال عليه الصلاة والسلام «ثلاث من الحق: ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضي عنها للّه تعالى إلا أعزّ اللّه عز وجل بها نصره، وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده اللّه تعالى بها كثرة، وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده اللّه تعالى بها قلة».وفي هذا الحديث تنبيه لأبي بكر رضي اللّه عنه على ترك الأولى والأخذ بالعزيمة، ولا وجه لقول من قال إن فيه عتبا من حضرة الرسول وهو فعل بعض ما وقع عليه، واللّه تعالى يقول في مثله {ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} الآية 41 المارة، لأن التنبيه شيء والعتب شيء آخر، وكذلك لا يعد لوما لأنه لم يقترن بقول الرسول له لم فعلت أو لم قابلته.هذا وقد أمر صلى الله عليه وسلم بعض الأشخاص برد الشتم فقد أخرج النسائي وابن ماجه وابن مردويه عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: دخلت عليّ زينب رضي اللّه عنها وعندي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأقبلت عليّ تسبني، فردعها النبي صلى الله عليه وسلم فلم تنته، فقال لي «سبّيها»، وفي رواية «دونك فانتصري»، فسببتها حتى جفّ ريقها في فمها ووجه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يتهلهل سرورا.وهذا من قبيل التعزير لزينب بلسان عائشة، لما أن لها حقا في الرد، وقد رأى صلى الله عليه وسلم المصلحة في ذلك ففوض إليها إقامة هذا الحق عنه.الحكم الشرعي: هو أن للقاضي أن يعزر من استحق التعزير بشتم غير القذف، وكذا للزوج أن يعزر زوجته على شتمها غير محرم، وقد يغلب في التعزير حق العبد فيجوز فيه الإبراء والعفو واليمين والشهادة على الشهادة وشهادة رجل وامرأتين، وقد يكون حقا محضا للّه فلا عفو فيه إلا إذا علم الإمام انزجار الفاعل فله ذلك، وإذا لم تطاوع نفسه على العفو فعليه السكوت حالئذ لئلا يفرط منه ما لا يتلافى فهو سبيل السلامة قال أحمد بن عبيد:
ويهدي بصدر هذا البيت بمعنى يهتدي.وسيأتي لهذا البحث صلة عند قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شيء} الآية 178 من سورة البقرة في ج 3 إن شاء اللّه {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ} يتولى أمره ويهديه إلى رشده {مِنْ بَعْدِهِ} كما أن من يهديه فما له من مضل {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ} يوم القيامة {يَقولونَ} يسألون ربهم ثم بين صورة سؤالهم بقوله عزّ قوله: {هَلْ إِلى مَرَدٍّ} إلى الدنيا لنعمل صالحا وهل {مِنْ سَبِيلٍ} 44 إلى ذلك لنؤمن باللّه ورسله وكتبه فلا يجابون إلى طلبهم {وَتَراهُمْ} يا سيد الرسل {يُعْرَضُونَ عَلَيْها} أي النار المستفادة من لفظ العذاب آنفا {خاشِعِينَ} متقاصرين متضائلين خاشعين {مِنَ الذُّلِّ} الذي رأوه والهوان الذي حلّ بهم {يَنْظُرُونَ} إلى النار القادمين إليها {مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} أي بمسارقة لشدة الخوف كنظر المقتول إلى الجلاد والتيس إلى الجزار والمحكوم بالإعدام إلى المشنقة.{وَقال الَّذِينَ آمَنُوا} عند رؤيتهم أولئك {إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ} الذين اتبعوهم في الدنيا وعملوا بأعمالهم {يَوْمَ الْقِيامَةِ} إذ عرضوهم للعذاب باتباعهم أعمالهم، وكذلك خسروا الذين لم يتبعوهم من أهليهم لأنهم صاروا إلى الجنة وانفردوا عنهم في النار، فصارت خسارتهم مزدوجة فانتبهوا أيها الناس لهذه الخسارة الفظيعة {أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ} 45 لا يتحول عنهم ولا يتحولون عنه {وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياء يَنْصُرُونَهُمْ} من عذاب ذلك اليوم {مِنْ دُونِ اللَّهِ} لأن الأمر كله له {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ} 46 طريق إلى النجاة فلا يصل إلى الحق في الدنيا ولا إلى الجنة في الآخرة، فيا أيها الناس {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ} وآمنوا به وانقادوا لرسله {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} حين لا يستطيع من بالكون كله على دفعه أو تأخيره، واعلموا أنه {ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ} يقيكم من عذابه ولا ملتجى تلجأون إليه منه {يَوْمَئِذٍ} يوم يأتيكم وهذا التنوين عوض عن جملة وقد يكون عن كلمة ويكون عن حرف كما سنبين كلا بمحله {وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} 47 مما اقترفتموه من الذنوب لأنكم إذا جحدتموها أقرت بها جوارحكم {فَإِنْ أَعْرَضُوا} عن إجابتك يا حبيبي ولم يلتفتوا إلى نصحك {فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} حتى تهتم بشأنهم ويضيق صدرك من عدم إيمانهم {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} لما أرسلت به إليهم ما عليك غيره، وليس لك أن تقسرهم على الأخذ بإرشادك، وقد علمنا أنك قمت بما أمرناك به، فاتركهم الآن حتى يحين اليوم الذي قدر فيه إيمان من يؤمن منهم وتعذيب من بصر على كفره {وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً} من غنى وصحة وأمن وأولاد ورياسة {فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} من فقر ومرض وخوف وذل {بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} من الخبائث التي جنوها {فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ} 48 لما أسلفناه من النعم قبلها وكان عليه قبل أن يغمط حق النعمة أن يتأمل أن زوالها كان بسبب كفره وأنه إذا تاب وأناب فاللّه أكرم من أن يرد عليه نعمه لا أن يقابلها بالإعراض والجحود.
|